فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعاد}
الاستفهام هنا تقريري، تهديدي.. أي انظر كيف فعل ربك بعباد.. وكذلك يفعل ربك بالطاغين والمتجبرين.
وعاد، قبيلة قديمة من العرب البائدة، وكانت ديارهم بالأحقاف، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَاذكر أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ} (21. الأحقاف) و{إرم}، هي موطن عاد، وهى بدل من كلمة (عاد) أي ألم تر كيف فعل ربك بأرم ذات العماد، التي عمرتها قبيلة عاد، وأعملت فيها قوتها الجسدية، وجلبت لها كل ما قدرت عليه من مل، ومتاع.. فكانت كما وصفها اللّه سبحانه: {لَمْ يُخلق مِثْلُها فِي البلاد} أي لم يكن لها مثيل فيما جاورها من بلاد..
وكان النبي الذي أرسله اللّه إليهم، هو (هود) عليه السلام، وقد دعاهم إلى اللّه، وترفق بهم، وذكّرهم بآلاء اللّه عليهم، وإحسانه إليهم، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا، وضلالا.. وفيما كان يقول (هود) لهم، ما جاء في قوله تعالى: {وَاذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخلق بَصْطَةً فَاذكروا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (69: الأعراف) وقد أهلكهم اللّه بريح صرصر عاتية، كما يقول سبحانه: {وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثمانية أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ} (6- 8: الحاقة) وسمى بناء المدينة وإقامتها على هذه الصورة العجيبة من القوة، والضخامة، والإحكام- سمى هذا خلقا، لأنها من عمل مخلوقات للّه، وكل ما يعمل فيه الناس، هو من خلق اللّه، كما يقول سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} (96: الصافات) ومناسبة قصة عاد وثمود وفرعون، لما قبلها، هي أنها تعرض قضية من القضايا التي تستحق من العقل أن يناقشها، وان يستحضر وجوده كله لها، وذلك بعد أن استدعى هذا الاستدعاء القوى الذي شدّ إليه بالقسم، لينظر في الزمن، وما تلد آناته ولحظاته من عجائب.
والقضية التي يدعى إليها العقل هنا، هي سنة من سنة اللّه سبحانه وتعالى، فيما يأخذ به أهل الزيغ والضلال، من بأساء وضراء في الدنيا، وما أعد لهم في الآخرة من عذاب السعير..
وفى عاد وثمود وفرعون، يتمثل وجه كريه من وجوه الكفر والضلال، والعتوّ.. وقد أخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر، فاقتلعهم من جذورهم، وقطع نسلهم، وأتى على ما بنوا، وشيدوا.
وقوله تعالى: {وثمود الَّذينَ جابُوا الصَّخْرَ بالواد} معطوف على قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعاد} وكيف فعل ربك بثمود؟ وثمود، هم قوم صالح عليه السلام، وهم من العرب البائدة، وديارهم بالحجر بين الشام والعراق، وقد مر بها النبي، صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فسجّى ثوبه على وجهه، وأمر أصحابه أن يمروا بها مسرعين، وقال:
«لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون، خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم».
وقوله تعالى: {جابوا الصخر} أي قطعوه، وشقوه كما يشق الجيب، وهو فتحة الثوب التي يلبس منها.. ومعنى ذلك أنهم نحتوا الصخر في الوادي الذي يسكنون فيه، وجعلوا بيوتهم منحوتة في كيان الصخر، فكانت أشبه بحصون.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارِهِينَ} (149: الشعراء) قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذي الأوتاد} معطوف على {وثمود}.. والأوتاد جمع وتد، وهى تلك الأهرامات العظيمة التي أقامها فراعين مصر، فكانت أشبه بالجبال، التي هي أوتاد الأرض، كما يقول سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالجبال أَوْتاداً} (6، 7: النبأ).
وقوله تعالى: {الَّذينَ طَغَوْا فِي البلاد فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عذاب} {الَّذينَ طَغَوْا فِي البلاد} هو وصف لعاد، وثمود، وفرعون.. فهم جميعا من الطغاة الباغين، الذين استبدوا بالبلاد، وبالعباد، فأشاعوا الفساد حيث كانوا، ولهذا أخذهم اللّه جميعا بالعذاب فصّبه صبّا عليهم.
والسوط: أصله من ساط الشيء يسوطه، أي خلطه بغيره، لأن السوط يختلط بالجلد، حين يضرب به..
وسوط العذب، هو خليط من ألوان العذاب، وقد أخذ اللّه سبحانه كلّ جماعة من أهل الضلال بلون من ألوان الهلاك كما يقول سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا} (40: العنكبوت).
وإذ قد جمع اللّه سبحانه وتعالى بين عاد، وثمود، وفرعون، في سياق قصة واحدة- فكان من إعجاز النظم القرآنى أن يجمع عذابهم، وما أخذ به كل فريق منهم، في إناء واحد، وأن يصبّه عليهم جميعا، فإذا وقع بهم، أخذ كل فريق لون العذاب المسلّط عليه! وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالمرصاد} المرصاد: المكان العالي، الذي يقوم فيه الراصد، ليرقب ما يجرى هنا وهناك.
وفى هذا إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى رقيب على أعمال الناس، يرى كل ما يعملون، وسيحاسبهم على ما عملوا، دون أن يقلت أحد منهم، لأن اللّه سبحانه متمكن منهم، بهذا العلو الذي لا يدانى.. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بعاد (6)}
لا يصلح هذا أن يكون جواباً للقسم ولكنه: إمَّا دليلُ الجواب إذ يدل على أن المقسَم عليه من جنس ما فُعِل بهذه الأمم الثلاث وهو الاستئصال الدال عليه قوله: {فصب عليهم ربك سوط عذاب}، فتقدير الجواب ليصبن ربك على مكذبيك سوط عذاب كما صب على عاد وثمود وفرعون.
وإمّا تمهيد للجواب ومقدمة له إن جعلت الجواب قوله: {إن ربك لبالمرصاد} وما بينه وبين الآيات السابقة اعتراض جعل كمقدمة لجواب القسم.
والمعنى: إن ربك لبالمرصاد للمكذبين لا يخفى عليه أمرهم، فيكون تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {ولا تحسبن اللَّه غافلاً عما يعمل الظالمون} [إبراهيم: 42].
فالاستفهام في قوله: {ألم تر} تقريري، والمخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم تثبيتاً له ووعداً بالنصر، وتعريضاً للمعاندين بالإِنذار بمثله فإن ما فُعل بهذه الأمم الثلاث موعظة وإنذار للقوم الذين فَعَلوا مثل فعلهم من تكذيب رسل الله قُصد منه تقريب وقوع ذلك وتوقع حلوله.
لأن التذكير بالنظائر واستحضَار الأمثال يقرِّب إلى الأذهانِ الأمر الغريب الوقوع، لأن بُعد العهد بحدوث أمثاله ينسيه الناسَ، وإذا نُسي استبعَد الناسُ وقوعه، فالتذكير يزيل الاستبعاد.
فهذه العِبَر جزئيات من مضمون جواب القسم، فإن كان محذوفاً فذكرها دليلُه، وإن كان الجواب قوله: {إن ربك لبالمرصاد} كان تقديمها على الجواب زيادة في التشويق إلى تلقيه، وإيذاناً بجنس الجواب من قَبْل ذكره ليحصل بعد ذكره مزيد تقرُّره في الأذهان.
والرؤيَةُ في {ألم تر} يجوز أن تكون رؤية عِلْمية تشبيهاً للعلم اليقيني بالرؤية في الوضوح والانكشاف لأن أخبار هذه الأمم شائعة مضروبة بها المُثُل فكأنها مشاهدة.
فتكون {كيف} استفهاماً معلِّقاً فعل الرؤية عن العمل في مفعولين.
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمعنى: ألم تر آثار ما فعل ربك بعاد، وتكون {كيف} إسْماً مجرّداً عن الاستفهام في محل نصب على المفعولية لفعل الرؤية البصرية.
وعُدل عن اسم الجلالة إلى التعريف بإضافة رب إلى ضمير المخاطب في قوله: {فعل ربك} لما في وصف رب من الإِشعار بالولاية والتأييد ولما تؤذن به إضافته إلى ضمير المخاطب من إعزازه وتشريفه.
وقد ابتُدئت الموعظة بذكر عاد وثمود لشهرتهما بين المخاطبين وذُكِرَ بعدهما قوم فرعون لشهرة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون بين أهل الكتاب ببلاد العرب وهم يحدِّثون العرب عنها.
وأريد بـ: (عاد) الأمة لا محالة قال تعالى: {وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم} [هود: 59] فوَجْه صرفه أنه اسم ثلاثي ساكن الوسط مثل هِند ونُوح وإرَم بكسر الهمزة وفتح الراء اسم إرَم بن سَامٍ بن نُوح وهو جد عاد لأن عاداً هو ابن عُوص بن إرَم، وهو ممنوع من الصرف للعجمة لأن العرب البائدة يُعتبرون خارجين عن أسماء اللغة العربية المستعملة، فهو عطف بيان لـ: (عاد) للإِشارة إلى أن المراد بـ: (عاد) القبيلة التي جدها الأدنى هو عاد بن عوص بن إرم، وهم عاد الموصوفة بـ: {الأولى} في قوله تعالى: {وأنه أهلك عاداً الأولى} [النجم: 50] لئلا يتوهم أن المتحدَّثَ عنهم قبيلة أخرى تسمى عاداً أيضًا.
كانت تنزل مكة مع العَمَاليق يقال: إنهم بقية من عاد الأولى فعاد وإرم اسمان لقبيلة عاد الأولى.
ووُصِفَتْ عادٌ بـ: {ذات العماد}، و{ذاتُ} وصْف مؤنث لأن المراد بعاد القبيلة.
و{العماد}: عُود غليظ طويلٌ يُقام عليه البيت يركز في الأرض تقام عليه أثواب الخيمة أو القبة ويسمى دَعامةً، وهو هنا مستعار للقوة تشبيهاً للقبيلة القوية بالبيت ذات العماد.
وإطلاق العماد على القوة جاء في قول عمرو بن كلثوم:
ونَحن إذا عِمَادُ الحَيِّ خَرَّت ** على الأحْفاض نَمنع من يَلِينا

ويجوز أن يكون المراد بـ: {العماد} الأعلام التي بنوْها في طرُقهم ليهتدي بها المسافرون المذكورةَ في قوله تعالى: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون} [الشعراء: 128].
ووُصفت عاد بـ: {ذات العماد} لقوتها وشدتها، أي قد أهلك الله قوماً هم أشد من القوم الذين كذبوك قال تعالى: {وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم} [محمد: 13] وقال: {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة} [غافر: 21].
و{التي}: صادق على (عاد) بتأويل القبيلة كما وصفت بـ: {ذات العماد} والعرب يقولون: تَغلِبُ ابنةُ وائل، بتأويل تغلب بالقبيلة.
و{البلاد}: جمعَ بَلَد وبلْدة وهي مساحة واسعة من الأرض معينة بحدود أو سكان.
والتعريف في {البلاد} للجنس والمعنى: التي لم يخلق مثل تلك الأمة في الأرض.
وأريد بالخلق خلق أجسادهم فقد رُوي أنهم كانوا طِوالاً شداداً أقوياء، وكانوا أهل عقل وتدبير، والعرب تضرب المثل بأحلام عاد، ثم فسدت طباعهم بالترف فبطروا النعمة.
والظاهر أن لام التعريف هنا للاستغراق العُرفي، أي في بلدان العرب وقبائلهم.
وقد وضع القصاصون حول قوله تعالى: {إرم ذات العماد} قصةً مكذوبة فزعموا أن {إرم ذات العماد} مركب جعل اسماً لمدينة باليَمن أو بالشام أو بمصر، ووصفوا قصورها وبساتينها بأوصاف غير معتادة، وتقولوا أن أعرابياً يقال له: عبدُ الله بن قلابة كان في زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان تاهَ في ابتغاء إبِلٍ له فاطَّلع على هذه المدينة وأنه لما رجع أخبر الناس فذهبوا إلى المكان الذي زعم أنه وجَد فيه المدينة فلم يجدوا شيئاً.
وهذه أكاذيب مخلوطة بجهالة إذ كيف يصح أن يكون اسمَها أرم ويتبع بذاتِ العماد بفتح {إرَمَ} وكسر {ذاتِ} فلو كان الاسم مركباً مَزْجياً لكان بناء جزأيْه على الفتح، وإن كان الاسم مفرداً و{ذات} صفة له فلا وجه لكسر {ذات}، على أن موقع هذا الاسم عقب قوله تعالى: {بعاد} يناكد ذلك كله.
ومُنع {ثمود} من الصرف لأن المراد به الأمة المعروفة، ووصف باسم الموصول لجمع المذكر في قوله: {الذين جابوا} دون أن يقول التي جابت الصخر بتأويل القوم فلما وُصف عدل عن تأنيثه تفنناً في الأسلوب.
ومعنى {جابوا}: قطعوا، أي نَحتوا الصخر واتخذوا فيه بيوتاً كما قال تعالى: {وتنحتون من الجبال بيوتاً} [الشعراء: 149] وقد قيل: إن ثمود أول أمم البشر نحتوا الصخر والرخام.
و{الصخر}: الحجارة العظيمة.
والواد: اسم لأرض كائنةٍ بين جبلين منخفضة، ومنه سمي مجرى الماء الكثير واداً وفيه لغتان: أن يكون آخره دَالاً، وأن يكون آخره ياء ساكنةً بعد الدال.
وقرأ الجمهور بدون ياء.
وقرأه ابن كثير ويعقوب بياء في آخره وصلا ووقفاً.
وقرأه ورش عن نافع بياء في الوصل وبدونها في الوقف وهي قراءة مبنية على مراعاة الفواصل مثل ما تقدم في قوله تعالى: {والليل إذا يسر} [الفجر: 4] وهو مرسوم في المصحف بدون ياء والقراءات تعتمد الرواية بالسمع لا رسم المصحف إذ المقصود من كتابة المصاحف أن يتذكر بها الحفاظ ما عسى أن ينسَوْه.
والواد: علَم بالغلبة على منازل ثمود، ويقال له: وادي القُرى، بإضافته إلى (القرى) التي بنتها ثمود فيه ويسمى أيضًا (الحجر) بكسر الحاء وسكون الجيم، ويقال لها: (حجر ثمود) وهو واد بين خيبر وتَيْماء في طريق الماشي من المدينة إلى الشام، ونزله اليهود بعد ثمود لما نزلوا بلادَ العرب، ونزله من قبائل العرب قُضاعة وجهينة، وعُذرة وبَليٌّ.
وكان غزاه النبي صلى الله عليه وسلم وفتحه سنة سبع فأسلم من فيه من العرب وصُولحت اليهود على جِزْيَةٍ.
والباء في قوله: {بالواد} للظرفية.
والمراد بـ: {فرعون} هو وقومه.
ووصف {ذي الأوتاد} لأن مملكته كانت تحتوي على الأهرام التي بناها أسلافه لأن صورة الهرم على الأرض تشبه الوتد المدقوق، ويجوز أن يكون الأوتاد مستعاراً للتمكن والثبات، أي ذي القوة على نحو قوله: {ذات العماد}، وقد تقدم عند قوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذُو الأوتاد} في ص (12).
وقوله: {الذين طغوا في البلاد} يجوز أن يكون شاملاً لجميع المذكورين عاد وثمود وفرعون.
ويجوز أن يكون نعتاً لفرعون لأن المراد هو وقومه.
والطغيان شدّة العصيان والظلم ومعنى طغيانهم في البلاد أن كل أمة من هؤلاء طَغوا في بلدهم؛ ولما كان بلدهم من جملة البلاد أي أرضي الأقوام كان طغيانهم في بلدهم قد أوقع الطغيان في البلاد لأن فساد البعض آئل إلى فساد الجميع بسَنِّ سنن السوء، ولذلك تسبب عليه ما فرع عنه من قوله: {فأكثروا فيها الفساد} لأن الطغيان يجرئ صاحبه على دحض حقوق الناس فهو من جهة يكون قدوة سُوءٍ لأمثاله ومَلئهِ، فكل واحد منهم يطغى على من هو دونه، وذلك فساد عظيم، لأن به اختلال الشرائع الإلهية والقوانين الوضعية الصالحة وهو من جهة أخرى يثير الحفائظ والضغائن في المطْغيّ عليه من الرعية فيُضمرون السوء للطاغين وتنطوي نفوسهم على كراهية ولاة الأمور وتربص الدوائر بها فيكونُون لها أعداء غير مخلصي الضمائر ويكون رجال الدولة متوجّسين منهم خيفة فيظنون بهم السوء في كل حال ويحْذَرُونهم فتتوزع قوة الأمة على أفرادها عوض أن تتّحد على أعدائها فتصبح للأمة أعداء في الخارج وأعداء في الداخل وذلك يفضي إلى فساد عظيم، فلا جرم كان الطغيان سبباً لكثرة الفساد.
ويجوز أن يكون التعريف في {البلاد} تعريف العهد، أي في بلادهم والجمع على اعتبار التوزيع، أي طغت كل أمة في بلادها.
و{الفساد}: سوء حال الشيء ولحاق الضر به قال تعالى: {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل} [البقرة: 205].
وضد الفساد الصلاح قال تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} [الأعراف: 56] وكان ما أكثروه من الفساد سبباً في غضب الله عليهم، والله لا يحب الفساد فصب عليهم العذاب.
والصب حقيقته: إفراغ ما في الظرف، وهو هنا مستعار لحلول العذاب دَفعة وإحاطته بهم كما يصب الماء على المغتَسِل أو يصب المطر على الأرض، فوجه الشبه مركب من السرعة والكثرة ونظيره استعارةُ الإِفراغ في قوله تعالى: {ربنا أفرغ علينا صبراً} [البقرة: 250] ونظير الصب قولهم: شن عليهم الغارةَ.
وكان العذاب الذي أصاب هؤلاء عذاباً مفاجئاً قاضياً.
فأما عاد فرأوا عارض الريح فحسبوه عارض مطر فما لبثوا حتى أطارتهم الريح كل مطير.
وأما ثمود فقد أخذتهم الصيحة.
وأما فرعون فحسبوا البحر منحسراً فما راعهم إلا وقد أحاط بهم.
والسوط: آلة ضرب تتخذ من جلود مضفورة تضرب بها الخيل للتأديب ولتحمِلَها على المزيد في الجري.
وعن الفراء أن كلمة {سوط عذاب} يقولها العرب لكل عذاب يدخل فيه السوط (أي يقع بالسوط)، يُريد أن حقيقتها كذلك ولا يريد أنها في هذه الآية كذلك.
وإضافة {سوط} إلى {عذاب} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي صب عليهم عذاباً سوطاً، أي كالسوط في سرعة الإِصابة فهو تشبيه بليغ.
وجملة: {إن ربك لبالمرصاد} تذييل وتعليل لإِصابتهم بسوط عذاب إذا قدر جواب القسم محذوفاً.
ويجوز أن تكون جواب القَسَم كما تقدم آنفاً.
فعلى كون الجملة تذييلاً تكون تعليلاً لجملة {فصب عليهم ربك سوط عذاب} تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ينصر رسله وتصريحاً للمعاندين بما عَرَّض لهم به من توقع معاملته إياهم بمثل ما عامل به المكذبين الأولين.
أي أن الله بالمرصاد لكل طاغ مفسد.
وعلى كونها جواب القسم تكون كناية عن تسليط العذاب على المشركين إذ لا يراد من الرصد إلا دفع المعتدي من عدوّ ونحوه، وهو المقسم عليه وما قبله اعتراضاً تفنناً في نظم الكلام إذْ قُدم على المقصود بالقسم ما هو استدلال عليه وتنظير بما سبق من عقاب أمثالهم من الأمم من قوله: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد} الخ، وهو أسلوب من أساليب الخطابة إذّ يُجعل البيان والتنظير بمنزلة المقدمة ويجعل الغرض المقصود بمنزلة النتيجة والعلةِ إذا كان الكلام صالحاً للاعتبارين مع قصد الاهتمام بالمقدَّم والمبادرة به.
والعدول عن ضمير المتكلم أو اسم الجلالة إلى {ربك} في قوله: {فصب عليهم ربك سوط عذاب} وقوله: {إن ربك لبالمرصاد} إيماء إلى أن فاعل ذلك رَبه الذي شأنه أن ينتصر له، فهو مُؤمّل بأن يعذب الذين كذبوه انتصاراً له انتصارَ المولى لوليّه.
والمرصاد: المكان الذي يَترقب فيه الرَّصد، أي الجماعة المراقبون شيئاً، وصيغةُ مفعال تأتي للمكان وللزمان كما تأتي للآلة، فمعنى الآلة هنا غير محتمل، فهو هنا إما للزمان أو المكان إذ الرصد الترقب.
وتعريف (المرصاد) تعريف الجنس وهو يفيد عموم المتعلق، أي بالمرصاد لكل فاعل، فهو تمثيل لعموم علم الله تعالى بما يكون من أعمال العباد وحركاتهم، بحال اطلاع الرصَد على تحركات العدُوّ والمغيرين، وهذا المثلُ كناية عن مجازاة كل عامل بما عمِله وما يعمله إذ لا يقصد الرصد إلا للجزاءِ على العدوان، وفي ما يفيده من التعليل إيماء إلى أن الله لم يظلمهم فيما أصابهم به.
والباء في قوله: {بالمرصاد} للظرفية. اهـ.